من هو المهدی الموعود؟(2)
الفصل الأول
الوصیة أو النص الإلهی
وهکذا منذ الیوم الأول الذی خلق الله فیه آدم (ع) بدأت الرحلة مع قانون الوصیة والنص الإلهی ، قال تعالى : ((وَإِذْ قَالَ رَبُّکَ لِلْمَلاَئِکَةِ إِنِّی جَاعِلٌ فِی الأَرْضِ خَلِیفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِیهَا مَن یُفْسِدُ فِیهَا وَیَسْفِکُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِکَ وَنُقَدِّسُ لَکَ قَالَ إِنِّی أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ))البقرة الآیة/30 .
وقال تعالى )) وَإِذْ قَالَ رَبُّکَ لِلْمَلاَئِکَةِ إِنِّی خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ* فَإِذَا سَوَّیْتُهُ وَنَفَخْتُ فِیهِ مِن رُّوحِی فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِینَ* فَسَجَدَ الْمَلآئِکَةُ کُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ* إِلاَّ إِبْلِیسَ أَبَى أَن یَکُونَ مَعَ السَّاجِدِینَ(( الحجر (28ـ31) .
فی هذه الآیات الکریمة ینص الله تعالى على استخلاف آدم (ع) بمحضر من الملائکة (ع) وإبلیس (لع) ، فیستجیب الملائکة للأمر الإلهی بالسجود لآدم (ع) وإطاعته فینجحوا فی الإختبار الذی سیکون المحک فی تحدید المؤمنین الى یوم القیامة ، بینما یفشل إبلیس ( لعنه الله ) بسبب تکبره وشعوره الطاغی بأناه ( قال أنا خیر منه ) . فمحک النجاح والفشل یتمثل بإطاعة حجة الله أو خلیفته المنصوص علیه ، ومثلما کان القبول والتسلیم بتنصیب الله سبب نجاح الملائکة سیکون سبب نجاح المؤمنین ، وکما کان الجحود والکفر سبب فشل إبلیس (لع) واستحقاقه الطرد من رحمة الله ، سیکون کذلک بالنسبة لأتباعه من الإنس والجن (( سنة الله ولن تجد لسنة الله تبدیلا )) .
واستمر قانون النص الإلهی بعد آدم (ع) بصورة وصیة یوصی بها الحجة السابق الى من یلیه ، ولیست هذه الوصیة سوى نص من الله على الحجة ، فعن أبی عبد الله (ع) قال : ((…ثم أوحى الله إلى آدم أن یضع میراث النبوة والعلم ویدفعه إلى هابیل ، ففعل ذلک فلما علم قابیل غضب وقال لأبیه : ألست أکبر من أخی وأحق بما فعلت به ؟ فقال یا بنی أن الأمر بید الله وأن الله خصه بما فعلت فإن لم تصدقنی فقربا قرباناً فأیکما قبل قربانه فهو أولى بالفضل وکان القربان فی ذلک الوقت تنزل النار فتأکله . وکان قابیل صاحب زرع فقرّب قمحا ً ردیئا ً وکان هابیل صاحب غنم فقرّب کبشا ً سمینا ً فأکلت النار قربان هابیل . فأتاه إبلیس فقال : یا قابیل لو ولد لکما وکثر نسلکما افتخر نسله على نسلک بما خصه به أبوک ولقبول النار قربانه وترکها قربانک وإنک إن قتلته لم یجد أبوک بُدا ً من أن یخصک بما دفعه إلیه فوثب قابیل إلى هابیل فقتله ... )) قصص الأنبیاء/الجزائری 55 .
فأول إنسان اعترض على تنصیب الله تعالى هو قابیل ( لع ) تلمیذ إبلیس الملعون فقد ظن أن التنصیب بید الناس ، أی بید آدم (ع) ، لا بید الله سبحانه ، وعندما أخبره آدم (ع) بأن الإختیار لله لا لغیره أصر على تمرده إلى أن سولت له نفسه قتل أخیه هابیل (ع) ، ولکن الوصیة لم تنتکس أو تتوقف فقد رزق الله تعالى آدم (ع) ولداً صالحا ً هو هبة الله (ع) فأمره الله تعالى بالوصیة إلیه .
عن أبی عبد الله (ع) قال : (( لما انقضت نبّوة آدم وانقطع أکله أوحى الله إلیه : یا آدم إنه قد انقضت نبوتک وأنقطع أکلک فأنظر إلى ما عندک من العلم والإیمان ومیراث النبوة وآثار العلم والاسم الأعظم فأجعله فی العقب من ذریتک عند هبة الله فإنی لن أدع الأرض بغیر عالم یُعرف به الدین ویُعرف به طاعتی ویکون نجاة لمن یولد ما بین قبض النبی إلى ظهور النبی الآخر )) .
الله جل وعلا إذن لا یترک الأرض بغیر عالم یُعرف به الدین ، وتُعرف بطاعته طاعة الله ، وهذا یقتضی استمرار خط الوصیة کطریق فی تحدید العقیدة الإلهیة فی کیفیة تنصیب الحاکم ومعرفته .
واستمر بعد هبة الله (ع) خط الوصیة )) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِیمُ بَنِیهِ وَیَعْقُوبُ یَا بَنِیَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَکُمُ الدِّینَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ* أَمْ کُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ یَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِیهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِی قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَکَ وَإِلَـهَ آبَائِکَ إِبْرَاهِیمَ وَإِسْمَاعِیلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَه مُسْلِمُون ))البقرة(132ـ133) . والوصیة حقیقة قرآنیة تقررها عدة آیات منها قوله تعالى على لسان عیسى (ع) : (( ومبشراً برسول یأتی من بعدی اسمه أحمد )) ، وقوله تعالى : ((وَوَرِثَ سُلَیْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ یَاأَیُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّیْرِ وَأُوتِینَا مِنْ کُلِّ شَیْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِینُ}(النمل/16}.
وهکذا ف (( اللَّهُ یَصْطَفِی مِنْ الْمَلاَئِکَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِیعٌ بَصِیرٌ )) }الحج/75 }. والحق أن جمیع الأدیان السماویة بمذاهبها المختلفة تقرر هذه الحقیقة ، فقد ورد فی القرآن الکریم غیر الآیات المنصوصة أعلاه ، آیات کثیرة تؤکد هذا المبدأ ، لاسیما ما یتعلق منها بالبشارة برسول الله (ص) والإشارة إلیه .
وجاء فی التوراة : (( وقال الملک داود ادع لی صادوق الکاهن وباثان النبی وبنایاهو بن یهویاداع فدخلوا الى أمام الملک ، فقال الملک لهم خذوا معکم عبید سیدکم وأرکبوا سلیمان ابنی على البغلة التی لی وانزلوا به الى جیحون ، ولیمسحه هناک صادوق الکاهن وناثان النبی ملکاً على إسرائیل واضربوا بالبوق وقولوا لیحیَ الملک سلیمان وتصعدون وراءه فیأتی على کرسی وهو یملک عوضاً عنی وإیاه قد أوصیت أن یکون رئیساً على إسرائیل ویهوذا )) [الملوک الأول / الإصحاح الأول] . (( ولما قَرُبت أیام وفاة داود أوصى سلیمانَ ابنه قائلاً : أنا ذاهب فی طریق الأرض کلها ، فتشدد وکن رجلاً ، احفظ شعائر الرب إلهک ... الخ )) [الملوک الأول/ الإصحاح الثانی] . (( هاأنذا أرسل إلیکم إلیا النبی قبل مجیء یوم الرب ، الیوم العظیم والمخوف )) [ملاخی/ الإصحاح الرابع] . وجاء فی سفر التثنیة / الإصحاح الثالث والثلاثون : (( 1 وهذه هی البرکة التی بارک بها موسى رجل الله بنی إسرائیل قبل موته 2 فقال . جاء الرب من سیناء وأشرق لهم من سعیر وتلالا من جبل فاران وأتى من ربوات القدس وعن یمینه نار شریعة لهم )) . فموسى (ع) بشر قبل موته – کما فی النص – بعیسى الذی یُشرق من ساعیر ، وبرسول الله (ص) الذی یتلألأ من جبل فاران ( جبل عرفات ) .
وجاء فی الإنجیل على لسان عیسى (ع) قوله : (( لا تظنوا إنی أشکوکم الى الأب ، یوجد الذی یشکوکم وهو موسى الذی علیه رجاؤکم . لأنکم لو کنتم تصدقون موسى لکنتم تصدقوننی لأنه هو کتب عنی . فإن کنتم لستم تصدقون کتب ذاک فکیف تصدقون کلامی )) [إنجیل یوحنا] .
وقال (ع) : (( إن کنت أشهد لنفسی فشهادتی لیست حقاً . الذی شهد لی هو آخر وأنا أعلم إن شهادته التی یشهدها لی حق )) [إنجیل یوحنا] .
وبخصوص وصیته بالمعزی قال (ع) : (( وأما الآن فأنا ماض الى الذی أرسلنی ، ولیس أحد منکم یسألنی أین تمضی . لکنی اقول لکم الحق : إنه خیر لکم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا یأتیکم المعزی ، ولکن إن ذهبت أرسله إلیکم )) [یوحنا/إصحاح16] . فالوصیة قانون إلهی عرفته کل الأدیان السماویة دون إستثناء .
وعن أبی عبد الله (ع) قال : (( عاش نوح (ع) خمسمائة سنة بعد الطوفان ثم أتاه جبرائیل فقال : یا نوح قد قضیت نبوتک واستکملت أیامک فأنظر الاسم الأکبر ومیراث العلم وآثار علم النبوة التی معک فادفعها إلى إبنک سام فأنی لا أترک الأرض إلا وفیها عالم تعرف به طاعتی ویعرف به هدای ویکون نجاة فیما بین مقبض النبی ومبعث النبی الآخر ولم أکن أترک الناس بغیر حجة لی وداعٍ إلی وهادٍ إلى سبیلی وعارف بأمری فأنی قضیت أن أجعل لکل قوم هادیا ً أهدی به السعداء ویکون حجة لی على الأشقیاء إلى أن قال : وبشّرهم نوح بهودٍ علیهما السلام وأمرهم بأتباعه وأمرهم أن یفتحوا الوصیة فی کل عام وینظروا فیها ویکون عیدا ً لهم )) إثبات الهداة 1 / 98 .
وعن أبی عبد الله (ع) قال : (( أوصى موسى علیه السلام إلى یوشع بن نون وأوصى یوشع إلى ولد هارون ... إلى أن قال : وبشّر موسى ویوشع بالمسیح (ع) فلما أن بعث الله المسیح قال المسیح إنه سوف یأتی من بعدی نبی إسمه أحمد من ولد إسماعیل یجئ بتصدیقی وتصدیقکم وعذری وعذرکم . وجرت من بعده فی الحواریین فی المستحفظین ، وإنما سمّاهم الله المستحفظین لأنهم أُستُحفظوا الإسم الأکبر وهو الکتاب یعلم به کل شئ الذی کان مع الأنبیاء ... إلى أن قال : فلم تزل الوصیة فی عالم بعد عالم حتى دفعوها إلى محمد (ص) فلما بعث الله محمداً (ص) أسلم له العقب من المستحفظین وکذّب به بنو إسرائیل )) [ إثبات الهداة 1 / 151 ، الکافی 1 / 325] . وجاء فی لمع الأدلة فی قواعد عقائد أهل السنة والجماعة - عبد الملک الجوینی - ص 116، قوله : (( لا یصلح للإمامة إلا من تجتمع فیه شرائط أحدها أن یکون قرشیا فإن رسول الله علیه السلام قال الأئمة من قریش والآخر أن یکون مجتهدا من أهل الفتوى ... )) . وقول رسول الله (ص) هذا یدل على أن فکرة النص کانت حاضرة فی الوعی المسلم على الرغم من کل الإختلاف الذی نشب حولها فیما بعد ، ویدلک على حضورها فضلاً على ما تقدم أن أبا بکر لم یجد صیغة أخرى لاختیار سلف له غیر النص على عمر ومثله فعل عمر حین نص على ستة یتم اختیار الخلیفة من بینهم ، بل إن الأمر الأکثر دلالة فی هذا الصدد هو أن النظریة الأخرى التی وضعت بمواجهة نظریة النص ، وهی نظریة الشورى واختیار الأمة ( أو أهل الحل والعقد ) للحاکم ، هذه النظریة فضلاً على أنها قد نُقضت بعمل أبی بکر وعمر ، بل لم نجد لها مثالاً تطبیقاً واحداً على مر التأریخ الإسلامی ، أقول فضلاً عن کل ذلک لا نجد نصوصاً قانونیة أو تشریعیة تعبر عنها ، لا فی القرآن الکریم ولا فی السنة النبویة ، وغیاب النصوص هذا یوضحه غیاب الثقافة بین المسلمین فیما یتعلق بمسألة اختیار الحاکم من قبل الأمة ، فحتى على مستوى المتکلمین والفقهاء لا نجد من یخبرنا بالکیفیة التی تختار بها الأمة الحاکم ؛ فعلى سبیل المثال هل تلجأ الأمة الى آلیة الترشیح والتصویت ، وکم عدد أهل الحل والعقد وکیف تحسم الأمور فیما بینهم ... الخ .